عجوز تــئـــن..ولايكاد يسمع صوتها .. تبكي وجسمها الهزيل لم يعد قادرا على حمل دمعاتها ..
تصرخ بحتها في وجهه (( ماابي شي .. بس ابي عيالي )).. يجادلها ..يحاول ان يخرج منها
بغير تلك الكلمات (( وش تبين بهم .. بعد ما خلوك لوحدك)).. تجيب دون ان ترفع راسها
نحوه..(( يمه الضنا يمه)).. يسألها ماذا تحتاجين؟ وهي تقول ((ماابي شي .. بس ابي عيالي))
كيف تعيشين؟ ويجيبه صدى جملتها الأولى ..
يتردد صدى هذه الكلمات على مسامعي .. لاتفارقني صوره هذه العجوز وهي تحتضن وسادتها وتقول
(( المخده تشهد وش كثر بكيت علشانهم)) ..
ياالله .. أيعقل..؟ أيعقل أن تصل القسوه بأبنائها أن يتخلوا عنها وهي في سني عجزها ؟
أيعقل أن لاتؤثر فيهم توسلاتها ؟ أيعقل أن تحمل أجسادهم قلوبا حيه ؟
أيعقل أن تبكي وهم يضحكون ؟
تبعثر موسيقى البرنامج الحزينه تساؤلاتي ..وأعود لأشفق عليهم من جزاء مايصنعون معها ..
بكيت على هذه العجوز..ومنعني الحياء أن أصرخ وأنا أبكي ..
تمنيت لو استطعت تقبيل رأسها .. تمنيت لو استطعت أن أرتمي بين أحضانها ..رغم أني
لاأتذكر أني بكيت على أمي ..ولم أتمنى أن أقبل رأسها .. ولم أتمنى أن أنام بين أحضانها..
لاأتذكر أني رأيت أمي في صغري .. لاأتذكر أنها أرضعتني ..أو لاعبتني ..
لاأتذكر أني كنت صغيرا حتى .. كل ما أتذكره أني بعد عقد ونيف من ولادتي رأيت أمي ..
ولم تحتضني... أحاول أن أتذكر الآن وأنا أعتصر هذه الكلمات .. هل قبلتني كما كنت أتخيل
قبل أن أراها ..كنت أظنها ستصرخ .. ستصرخ لتخرج شوق كل تلك السنين التي حرمتها
مني.. لكنها لم تفعل..إنكسرت يومها .. كان يخيل لي حينها أن كل لحظه تمر وأنا بجانبها
تقتلني .. واكتشفت فيما بعد أنها قتلت الطفل في داخلي.. واقتلعت جذور أمانيه ..وزرعت بذرة القسوه ..
ربي اغفر لي ولوالدي ..بين السجدتين أتذكرها ..أو أذكرها .. فقط بين السجدتين ..
ولكنها أمي ..أعلم أنها تحبني ..وأخشى بأنها تشعر بما تشعر به تلك العجوز..
وأعلم الآن أن قسوة قلبي لاتختلف كثيرا عن قسوة قلوب
أبناء تلك العجوز..
ربي اغفرلي .. ولهم .