عاد هذا الأسبوع الإماراتي هزاع المنصوري من رحلة فضائية دامت ثمانية أيام، إذ وصل إلى محطة الفضاء الدولية على متن المركبة الفضائية الروسية سويوز م س-14 (Soyus MS-14). عند عودته، سُئل من قبل صحفي أو ربما من قبل طفل (هذا غير واضح في التسجيلات التي رأيتها) عمّا إذا كانت الأرض كروية، وأجاب أنها كذلك وأنه رآها كروية بأمّ عينه.
أثارت الإجابة موجةً كبيرة من السخرية، بالذات في ظل الاعتقاد –السائد في أوساط كثيرة في وطننا العربي– بأن الأرض مسطحة وليست كروية. يرى البعض أن المنصوري لا يستحق السخرية لأنه ببساطة أجاب على سؤال وُجِّه له خلال المؤتمر الصحفي، بالإضافة إلى أن الإيمان بأن الأرض مسطحة ليس حكرًا على العالم العربي فقط، بل هو ظاهرة موجودة ومنتشرة في كل مجتمعات العالم. في هذا المقال سأناقش لماذا يستخف أغلبنا بهذه “الإنجازات” و”الاكتشافات” العربية، ولا يأخذها على محمل الجد.

لنبدأ بالحقائق. صعد هزاع المنصوري إلى الفضاء بعد أن اختير من بين مجموعة تقدمت إلى الاشتراك في هذه الرحلة، إثر إعلان دولة الإمارات أنها تنوي إرسال أحد أبنائها إلى الفضاء. هزاع المنصوري هو طيار حربي وليس له أي اختصاص علمي أو تقني.
صحيح أن رواد الفضاء الأوائل مثل يوري غاغارين ونيل ارمسترونغ كانوا في الأساس طيارين عسكريين ولكن كان هذا في مرحلة مبكرة من استكشاف الفضاء، بُنيت في تلك المرحلة الصواريخ والمركبات الفضائية الأولى لتحقيق أهداف عديدة والبدء باستكشاف الفضاء. تختلف تلك الفترة عن الفترة الحالية، إذ تتعدى خبرة رواد الفضاء اليوم قضية الطيران وقيادة المركبة الفضائية بكثير، وجميعهم مؤهلون علميًا أو تقنيًا ليساهموا في نجاح حملتهم الفضائية.
في المقابل لم يكن للمنصوري أي دور واضح في الرحلة الفضائية، لا يوجد أي وصف واضح لدوره، ويبدو أنه مجرد ضيف، وفقًا لما كُتب عنه. وكالة الفضاء الفدرالية الروسية عرفت المنصوري بمثابة «مشترك في الرحلة الفضائية» (Spaceflight participant)، بينما اعتمدت وكالة الفضاء الأمريكية مصطلحًا جديدًا لوصف طبيعة اشتراكه، إذ أطلقت عليه لقب «رائد فضائي زائر» (Visiting Astronaut)، بعد عودته مع الكبسولة الفضائية سيوز.
هذا كل ما يُمكن إيجاده من خلال قراءة مختلف البيانات حول اشتراك هزاع المنصوري في هذه الرحلة الفضائية. يتضح من التغطية الصحفية التي تلت الرحلة هو أن كل ما فعله المنصوري هو الذهاب إلى محطة الفضاء الدولية باعتباره سائحًا دفعت دولته تكاليف رحلته. مع هذا تصر دولة الإمارات على إطلاق لقب رائد فضاء عليه.

هزاع المنصوري



لبرامج أبحاث الفضاء في الدول المختلفة أهداف عدة، علمية أو صناعية أو تكنولوجية أو عسكرية أو طلائعية –أي تحقيق هدف معين للمرة الأولى– أو قد يكون الهدف مجرد إثبات قدرتها التكنولوجية على الخوض في مجال الفضاء، مثلما فعلت الهند والصين منذ فترة قريبة. لا يخدم «برنامج الفضاء الإماراتي» أيًا من هذه الأهداف، دولة الإمارات –كما باقي دول العالم العربي– لا تتوفر فيها البنية التحتية العلمية والمعرفية والمجتمعية والاقتصادية التي عليها أن تتوفر في أي دولة قبل أن تبدأ في خوض برنامج من هذا النوع. اشترت الإمارات حق الاشتراك في الرحلة، لكن ذلك لم يُسهم في تقدم معارفنا العلمية أو التقنية على الإطلاق.
تشتري هذه الدول السيارات الفاخرة وتتباهى بها لكنها لا تملك المعرفة التقنية والصناعية لتصنيع أبسط القطع في هذه السيارات. تستطيع دولة الإمارات أن تصر كما تشاء على أنها تملك برنامج فضاء، لكن ذلك لا يعتمد على أسس صحيحة وواقعية.
يقول البعض إن هذه ليست المرة الأولى التي يُشارك بها رواد فضاء من دول أخرى في رحلات فضائية روسية أو أمريكية، فقد اعتادت الدولتان – الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي (قبل انهياره) – على اصطحاب رواد فضاء من دول حليفة لها. لكن الاختلاف أن هؤلاء الرواد كانوا يُدعون من قبل الدول العظمى للانضمام، وكان لكل منهم دور محدد في الرحلات التي اشتركوا بها. والأهم من ذلك، لم تدّعِ دولهم امتلاكها برنامج فضاء فقط نتيجةً لهذه المشاركة.
ما فعلته الإمارات يختلف كليًا، فهي ببساطة اشترت مقعدًا سياحيًا في رحلة فضائية، وأي ادعاء آخر ليس صحيحًا. فلا يعقل مثلًا أن تدعي دولة أن لديها صناعة سيارات لمجرد استيرادها أسطولًا من السيارات.
لنأتي الآن إلى موضوع الأرض المسطحة. نحن لسنا الشعوب الوحيدة التي يؤمن فيها البعض بأن الأرض مسطحة، بل هي ظاهرة منتشرة في كثير من الدول. حتى إن هناك جمعية دولية تدعى «جمعية الأرض المسطحة» (Flat Earth Society) تدّعي أن الأرض غير كروية، بل تشبه القرص أو المُعين أو أي شكل آخر مسطح. في الحقيقة، نشأت هذه الحركات في الغرب لأسباب عدة، أهمها عدم الثقة بالخبراء والحقائق التي يعرضونها بشكل عام، وهو أمر منتشر في كل المجتمعات في عصرنا الحالي. لست مؤهلًا لتحليل هذه الظاهرة سواءً في منطقتنا أو في مناطق أخرى، لكن لا يسعني إلا أن أعبر عن شعور عميق بأن الأمر يختلف في منطقتنا عمّا هو في الغرب.
لتوضيح القصد، لا يُؤخذ مناصرو الأرض المسطحة على محمل الجد في أغلب الدول، وآرائهم غير مقبولة من قيادات المجتمع الفكرية والسياسية والاجتماعية وحتى الدينية، على الرغم من استثناءات قليلة، بالذات في أمريكا. في المقابل، يدافع عن مثل هذه الآراء كثير من القيادات الدينية في العالم العربي (ليس جميعهم طبعًا)، وتُسمع آرائهم في أهم قنوات الاتصال والتلفاز. أي أن هذه الاعتقادات يحملها جزء جدي من قيادات المجتمع. تتعدى بعض الآراء الغريبة قضية الأرض المسطحة، إذ يُنكر البعض أن الأرض تدور، أو لا يؤمن بالجاذبية، أو ينكر رحلات الفضاء، وإلى ذلك من الآراء شبه المعتوهة. في مجتمعاتنا تيار قوي جدًا رافض للعلوم ويظن أنها ترهات لا غير، أراه بشكل واضح في ردود الفعل على كل مقال علمي عام أكتبه.
برأيي، هذه هي الدوافع الأساسية وراء موجة الاستهزاء من تصريح هزاع المنصوري. يعرف هؤلاء الناس أن المنصوري ليس رائد فضاء، وأن تلك مجرد كذبة. ويدركون أن التيار السائد في أوساط كبيرة في العالم العربي يرفض الحقائق العلمية، وتقوده تيارات دينية معيّنة ترفض الحداثة جملة وتفصيلًا، وتفرض فكرها وتفسيرها الديني على كل جانب من حياة الناس في مجتمعاتنا، بشكل طاغي وخانق.
يتعاظم الشعور بالإحباط عندما نقارن هذه الأفكار والتوجهات بتلك التي كانت سائدة في العصر الذهبي لحضارتنا، والذي لم يكن أقل تدينًا. درس علماء ذلك العصر الحقائق العلمية والفلسفة الإغريقية والمعارف الإنسانية العامة، واعتمدوا كروية الأرض في خرائطهم وأسفارهم. اشتُهر موسى بن شاكر وأبناؤه –الذين رعاهم المأمون وأدخلهم في بيت الحكمة– بدراساتهم الفلكية وقياسهم محيط الأرض وقطرها بعد أن كلفهم المأمون بذلك.
وقد قاموا بهذا القياس مستعينين بمعرفتهم لارتفاع جبل معين في صحراء سنجار في العراق، ومعتمدين على نظرية كروية الأرض ومبادئ الهندسة الإقليدية. يُذكر أن قياساتهم كانت قريبة من القياس المعاصر لقطر الأرض. لم يكن بنو موسى الأوائل في قياس قطر الأرض، بل سبقهم الإغريق إلى ذلك بألف عام تقريبًا (قاس إراتوستينس الإغريقي Eratosthenes قطر الأرض في عهد البطالمة في مصر في القرن الثاني قبل الميلاد).
للأسف، أصبحنا نعاني من الانغلاق والجمود الفكري، ونهتم بالقشور الفارغة بدل أن نحذو حذو أجدادنا بالانفتاح والاشتراك في عملية الإنتاج العلمي والفكري الإنساني، ونساهم في بناء الحضارة.
في النهاية، أود أن أتطرق إلى نقطة أخرى أسمعها كثيرًا في مثل هذه النقاشات، وهي أن لكل إنسان رأيه وهو حر به. هذا صحيح لكن ما يجب توضيحه أن هناك فرقًا كبيرًا بين الرأي والحقيقة الموضوعية.
مثلًا، قد يدّعي أحدهم أنه قادر على الطيران مثل الطيور من غير أي مساعدة. هو حر في ادعائه طبعًا، لكنه ادعاء غبي ومثير للشفقة، بل قد يكون أكثر من ذلك أيضًا. فإذا كان هذا الشخص مسؤولًا مثلًا أو له وزن اجتماعي ومكانة عالية، يصبح عندها ادعائه خطرًا على نفسه وعلى الناس.
سأوضح الفكرة بمثال واقعي شهير حصل منذ زمن قريب. في العقود الأخيرة، تحول مرض الإيدز في جنوب أفريقيا إلى وباء قومي أودى بحياة الكثيرين. لكن رئيس جنوب أفريقيا في ذلك الوقت، تابو إيمبيكي، رفض النتائج والحقائق العلمية حول هذا المرض، وأصر على تجاهلها مدعيًا أن فيروس HIV ليس المُسبب للإيدز. وبدل القيام بالخطوات التي تمليها الدراسات العلمية، أصر على توظيف الموارد التي تملكها حكومته لمحاربة الإيدز بأساليب أخرى غير فعالة، مصرًا على أن هناك آراءً مختلفة في الموضوع، إذ نصح شعبه بالاعتماد على حمية طعام مؤلفة من الثوم وزيت الزيتون والليمون للشفاء من المرض. نتيجةً لذلك مات عدد كبير من الضحايا في جنوب أفريقيا، التي لم تغير سياستها في محاربة الإيدز حتى تنحى إيمبيكي عن السلطة.
الآراء المختلفة هي قضية شرعية، لكن حتى تكون هذه الآراء ذات قيمة حقيقية يجب أن تعتمد على الحقائق الموضوعية، وإلا لن تكون سوى آراء سخيفة ومضحكة وحتى خطرة أحيانًا. أي يجب أن تُبنى الآراء على أساس متين من الحقائق والأدلة، لتؤخذ بعين الاعتبار ويكون لها أثر فعلي في تقدم المجتمعات.